فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنها ما روى ابن جرير عن الزهريّ عَن ابْن الْمُسَيّب قَال: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي الّذِينَ كَانُوا يَتَبَنّوْنَ رِجَالًا غَيْر أَبْنَائِهِمْ وَيُوَرّثُونَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللّه فِيهِمْ، فَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْوَصِيّة، وَرَدّ الْمِيرَاث إِلَى الْمَوَالِي فِي ذَوِي الرّحِم وَالْعَصَبَة، وَأَبَى اللّه أن يكون لِلْمُدّعِينَ مِيرَاثًا مِمّنْ اِدّعَاهُمْ وَتَبَنّاهُمْ، وَلَكِنّ جَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي الْوَصِيّة.
واعلم أن هذه الوجوه السلفية المروية في نزول الآية، كلها مما تصدق عليها الآية وتشملها وينطبق حكمها عليها: ولا تنافي بينها، لما أسلفناه في مقدمة التفسير.
هذا ولأبي عليّ الجبائي تأويل آخر في الآية، قال: تقدير الآية: ولكن شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي، ورثة {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي: فآتوا الموالي والورثة نصيبهم، فقوله: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} معطوف على قوله: {الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به، وسمى الله تعالى الوارث مولى، والمعنى: لا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى المولى والوارث.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: المراد بـ: {وَالّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدًا، قال تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النّكَاحِ} [البقرة: 235]، فذكر تعالى الوالدين والأقربين وذكر معهم الزوج والزوجة، ونظيره آية المواريث، في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين، ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة.
أقول: هذا التأويل المذكور وما قبله طريقة من لا يقف مع الآثار السلفية في التفسير، ويرى مزاحمتهم في الاجتهاد في ذلك، ذهابًا إلى أن ما لم يتواتر في معنى الآية من خبر أو إجماع، فلا حجة في المروي منه آحادًا، مرفوعًا أو موقوفًا، وإن صح، وهذه الطريقة سبيل طائفة قصّرت في علم السمع وأقلت البحث عنه، فنشأ من ذلك النقص من الدين والزيادة فيه بالرأي المحض.
ومذهبنا: أن لا غنى عن الرجوع إلى تفسير الصحابة رضي الله عنهم، لما ثبت من الثناء عليهم في الكتاب والسنة، ولأن القرآن أنزل على لغتهم، فالغلط أبعد عنهم من غيرهم، لاسيما تفسير حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فمتى صح الإسناد إليه كان تفسيره من أصح التفاسير، مقدمًا على كثير من الأئمة الجماهير، لوجوه متعددة: منها: أنه رَضِي اللّهُ عَنْهُ ثبت عنه أنه كان لا يستحل التأويل بالرأي، روي عنه أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار، وفي رواية «بغير علم» رواه أبو داود في العلم، والنسائي والترمذيّ.
فإذا جزم رَضِي اللّهُ عَنْهُ بأمر كان دليلًا على رفعه، كما أسلفنا في المقدمة.
{إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ} من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع.
{شَهِيدًا} أي: عالمًا، ففيه وعد ووعيد. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}.
وساعة ترى لفظة لكل وتجدها منونة، فاعرف أن هناك حاجة مقدرة، وأصلها لكل إنسان وحذف الاسم وجاء بدلًا منه التنوين، مثل قوله: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 83- 84].
ونجد التنوين في حينئذٍ أي حين بلغت الروح الحلقوم، فحذف حين بلغت الروح الحلقوم وعوض عنها التنوين في حينئذٍ إذن فالتنوين جاء بدلًا من المحذوف.
وقول الحق: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}، والموالي جمع مَوْلى. وقبل أن تنزل آيات الميراث، آخى النبي بين الأنصار والمهاجرين، فكانوا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكان هناك شيء اسمه مولى المناصرة وهو أن يستريح اثنان لبعضهما ويقول كل منهما للآخر: أنا أخوك وأنت أخي، حربي حربك، وسلمي سلمك، ودمي دمك، وترث مني وأرث منك، وتعقل عني وأعقل عنك، أي أن فعلتُ جناية تدفع عني، وإن فعلتَ أنت جناية أدفع عنك. مؤاخاة.
هؤلاء كان لهم نصيب في مال المتوفي، فالحق يبيّن: لكل إنسان من الرجال والنساء جعلنا ورثة يرثون مما ترك الوالدان، والأقربون.. أي لهم نصيب من ذلك ولأولياء المناصرة بعض من الميراث كذلك. فإياكم أن تأتوا أنتم وتقولوا: لا، لابد أن تعطوهم نصيبهم الذي كان مشروطًا لهم وهو السدس.
لكن ظل ذلك الحكم؟ لا لقد نسخ وأنزل الله قوله: {وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75].
فما دام الله قد قال: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ}. أي ولكل إنسان من الموالي شيء من آثار ما ترك الوالدان والأقربون. فإياكم أن تقولوا: هم ذهبوا فلا نعطيهم شيئا، لا ما كانوا متفقين فيه وعقدوا أيمانهم عليه آتوهم نصيبهم مصداقًا لقوله الحق: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} فالله شهيد على هذه. وشهيد على أنكم تنفذون أو لا تنفذون. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}.
قَالَ الْبَقَاعِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ نَظْمِ الدُّرَرِ مُبَيِّنًا وَجْهَ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا: وَلَمَّا كَانَ غَالِبُ مَا مَضَى مَبْنِيًّا عَلَى الْأَمْوَالِ، تَارَةً بِالْإِرْثِ، وَتَارَةً بِالْجُعْلِ فِي النِّكَاحِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَبَيَّنَ ضَعْفَ هَذَا النَّوْعِ كُلِّهِ، فَبَطَلَ تَعْلِيلُهُمْ لِمَنْعِ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ مِنَ الْإِرْثِ بِالضَّعْفِ، وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي النِّكَاحِ بِالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا حِفْظًا لِلْأَنْسَابِ، ذَاكِرًا كَيْفِيَّةَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ تَطْهِيرًا مُخَاطِبًا لِأَدْنَى الْأَسْنَانِ فِي الْإِيمَانِ تَرْفِيعًا لِغَيْرِهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّأْنِ، وَذَكَرَ الْآيَةَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مُعَامَلَةِ الْيَتَامَى وَالْأَقَارِبِ وَالنِّسَاءِ، ثُمَّ فِي مُعَامَلَةِ سَائِرِ النَّاسِ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنَ النِّسَاءِ لَمْ يُخْرِجِ الْكَلَامَ عَنْ أَحْكَامِ الْمَالِ، فَقَدْ ذَكَرَ مَا يُفْرَضُ لَهُنَّ وَمَا يَجِبُ مِنْ إِيتَائِهِنَّ أُجُورَهُنَّ، وَبَعْدَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ ذَكَرَ قَاعِدَةً عَامَّةً لِلتَّعَامُلِ الْمَالِيِّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ، أَضَافَ الْأَمْوَالَ إِلَى الْجَمِيعِ فَلَمْ يَقُلْ: لَا يَأْكُلْ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِرَارًا مِنْ تَكَافُلِ الْأُمَّةِ فِي حُقُوقِهَا وَمَصَالِحِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ هُوَ مَالُ أُمَّتِكُمْ، فَإِذَا اسْتَبَاحَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ مَالَ الْآخَرِ بِالْبَاطِلِ كَانَ كَأَنَّهُ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ أَكْلَ مَالِهِ وَهَضْمَ حُقُوقِهِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ يُدَانُ كَمَا يَدِينُ، هَذَا مَا عِنْدِي، وَنَقَلَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الدَّرْسَ عَلَى الْأُسْتَاذِ أَنَّهُ قَالَ أَيْضًا: إِنَّ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ تَنْبِيهًا إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ الْحَائِزَ لَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ- أَوِ الْبَذْلُ مِنْهُ- لِلْمُحْتَاجِ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَبْخَلَ عَلَيْهِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَأَقُولُ زِيَادَةً فِي الْبَيَانِ: إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ قَدْ قَرَّرَتْ فِي الْإِسْلَامِ قَاعِدَةَ الِاشْتِرَاكِ الَّتِي يَرْمِي إِلَيْهَا الِاشْتِرَاكِيُّونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى سُنَّةٍ عَادِلَةٍ فِيهَا، وَلَوِ الْتَمَسُوهَا فِي الْإِسْلَامِ لَوَجَدُوهَا، ذَلِكَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجْعَلُ مَالَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ مَالًا لِأُمَّتِهِ كُلِّهَا، مَعَ احْتِرَامِ الْحِيَازَةِ وَالْمَلَكِيَّةِ وَحِفْظِ حُقُوقِهَا، فَهُوَ يُوجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي مَالٍ كَثِيرٍ حُقُوقًا مُعَيَّنَةً لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا يُوجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبِ الْمَالِ الْقَلِيلِ حُقُوقًا أُخْرَى لِذَوِي الِاضْطِرَارِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَيَحُثُّ فَوْقَ ذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُؤَقَّتَةِ وَالْهَدِيَّةِ.
فَالْبِلَادُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا بِالْإِسْلَامِ لَا يُوجَدُ فِيهَا مُضْطَرٌّ إِلَى الْقُوتِ وَالسِّتْرِ قَطُّ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَفْرِضُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَرْضًا قَطْعِيًّا أَنْ يُزِيلُوا ضَرُورَةَ كُلِّ مُضْطَرٍّ، كَمَا يَفْرِضُ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقًّا آخَرَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمُسَاعَدَةِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَرِّ، وَيَرَى كُلُّ مَنْ يُقِيمُ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ أَنَّ مَالَ الْأُمَّةِ هُوَ مَالُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ يَجِدُهُ مَذْخُورًا لَهُ، وَقَدْ يُصِيبُهُ مِنْهُ حَظٌّ فِي غَيْرِ حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ الْمُعَيَّنَ الْمَفْرُوضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الْجَمَاعَةِ الْحَاكِمَةِ مِنَ الْأُمَّةِ؛ لِئَلَّا يَمْنَعَهُ بَعْضُ مَنْ يَمْرَضُ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَتَرَكَ إِلَى أَرْيَحِيَّةِ الْأَفْرَادِ سَائِرَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِمْ أَوْ نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ، وَحَثَّهُمْ بِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ، وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَذَمَّهُمْ عَلَى مَنْعِهِ؛ لِيَكُونَ الدَّافِعُ لَهُمْ إِلَى الْبَذْلِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَتَقْوَى مَلِكَاتُ السَّخَاءِ وَالنَّجْدَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالرَّحْمَةِ فِيهَا، وَلَمْ يُبِحْ لِلْمُحْتَاجِ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَيْدِيهِمْ بِدُونِ إِذْنِهِمْ وَمَرْضَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفْسَدَتَيْنِ: مَفْسَدَةَ قَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْفَضَائِلِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا، وَمَفْسَدَةَ اتِّكَالِ الْكُسَالَى عَلَى كَسْبِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْ وَرَاءِ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ انْحِطَاطُ الْبَشَرِ وَفَسَادُ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنَّ النَّاسَ خُلِقُوا مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ، فَمِنْهُمُ الْمَغْمُولُ الْمُخْلِدُ إِلَى الْكَسَلِ وَالْخُمُولِ، وَمِنْهُمْ مُحِبُّ الشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ وَتَذْلِيلِ صِعَابِ الْأُمُورِ، فَإِذَا أُبِيحَ لِلْكُسَالَى الْبَطَّالِينَ، أَنْ يَفْتَاتُوا عَلَى الْكَاسِبِينَ الْمُجِدِّينَ، فَيَأْخُذُوا مَا شَاءُوا أَوِ احْتَاجُوا مِنْ ثَمَرَاتِ كَسْبِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَلَا إِذْنِهِمْ، أَفْضَتْ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ إِلَى الْفَوْضَى فِي الْأَمْوَالِ، وَالضَّعْفِ وَالتَّوَانِي فِي الْأَعْمَالِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، فَوَجَبَ أَلَّا يَأْخُذَ أَحَدٌ مَالَ أَحَدٍ إِلَّا بِحَقٍّ، أَوْ يَبْذُلَ صَاحِبُ الْمَالِ مَا شَاءَ عَنْ كَرَمٍ وَفَضْلٍ.
فَمَتَى يَعُودُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى حَقِيقَةِ دِينِهِمْ وَيَكُونُونَ حُجَّةً لَهُ عَلَى جَمِيعِ الْمِلَلِ كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ، فَيُقِيمُوا الْمَدَنِيَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ كَمَا أَقَامَهَا أُولَئِكَ فِي عُصُورِهِمْ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ مَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنْ إِعْجَازِ الْإِيجَازِ.
أَمَّا الْبَاطِلُ، فَقَدْ قُلْنَا هُنَالِكَ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ حَقِيقِيٍّ، وَهُوَ مِنَ الْبَطَلِ وَالْبُطْلَانِ أَيِ الضَّيَاعِ وَالْخَسَارِ، فَقَدْ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ أَخْذَ الْمَالِ بِدُونِ مُقَابَلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ يُعْتَدُّ بِهَا، وَرِضَا مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ، وَكَذَا إِنْفَاقُهُ فِي غَيْرِ وَجْهٍ حَقِيقِيٍّ نَافِعٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: فَسَّرَ الْجَلَالُ وَغَيْرُهُ الْبَاطِلَ بِالْمُحَرَّمِ وَهُوَ إِحَالَةٌ لِلشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْبَاطِلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْمُحَرَّمُ يَجْعَلُ حَاصِلَ مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّنِي جَعَلْتُ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ مُحَرَّمًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ مَا يُقَابِلُ الْحَقَّ وَيُضَادُّهُ، وَالْكِتَابُ يُطْلِقُ الْأَلْفَاظَ كَالْحَقِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْحَسَنَاتِ، أَوِ الصَّالِحَاتِ، وَمَا يُقَابِلُهَا وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالْمُنْكَرُ وَالسَّيِّئَاتُ، وَيَكِلُ فَهْمَهَا إِلَى أَهْلِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ مِنَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْيَهُودِ: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [2: 61]، فَحَقُّ فُلَانٍ فِي الْمَالِ هُوَ الثَّابِتُ لَهُ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ مَا إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقَلَاءِ الْمُنْصِفِينَ أَصْحَابِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالْغِشُّ وَالْخِدَاعُ وَالرِّبَا وَالْغَبْنُ وَالتَّغْرِيرُ، وَقَوْلُهُ: بَيْنَكُمْ لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمَالَ الْمُحَرَّمَ- لِأَنَّهُ بَاطِلٌ- هُوَ مَا كَانَ مَوْضِعَ التَّنَازُعِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، كَأَنَّهُ وَاقِعٌ بَيْنَ الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ مِنْهُ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُرِيدُ جَذْبَهُ لِنَفَسِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ لِلْمَالِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِيهِ هُوَ الْحَقَّ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْبَاطِلِ، وَعَبَّرَ بِالْأَكْلِ عَنْ مُطْلَقِ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى أَسْبَابِهِ وَأَعَمُّهَا وَأَكْثَرُهَا.
قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ {تِجَارَةً} بِالنَّصْبِ، أَيْ: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْأَمْوَالُ تِجَارَةً إِلَخْ، وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ كَانَ تَامَّةٌ، وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ تُوجَدَ تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، قَالُوا: وَالْمَعْنَى: لَا تَقْصِدُوا إِلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اقْصِدُوا أَنْ تَرْبَحُوا بِالتِّجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ صَادِرَةً عَنِ التَّرَاضِي مِنْكُمْ، وَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ أَسْبَابِ الْمُلْكِ لِكَوْنِهَا أَكْثَرَ وُقُوعًا وَأَوْفَقَ لِذَوِي الْمُرُوءَاتِ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ الرَّجُلُ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ النُّورِ: {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} [24: 61]، الْآيَةَ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ مَا عَدَا رِبْحَ التِّجَارَةِ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ- أَيْ كَالْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ- ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ النُّورِ الْمُبِيحَةِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِ وَأَصْدِقَائِهِ، وَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الدِّينِ لَا أَصِلَ لَهُ- أَيْ: لَمْ تَصِحَّ رِوَايَتُهُ عَمَّنْ عَزَى إِلَيْهِ- إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ مُحَرَّمَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَإِقْرَاءِ الضَّيْفِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ فِيمَا يُمَانِعُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ فَيُؤْخَذُ بِدُونِ رِضَاهُ، أَوْ بِدُونِ عِلْمِهِ مَعَ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ لَا يَسْمَحُ بِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى اللهُ التِّجَارَةَ مِنْ عُمُومِ الْأَمْوَالِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، أَيْ: بِدُونِ مُقَابِلٍ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَنْوَاعِهَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَكْلُ بِالْبَاطِلِ، فَإِنَّ تَحْدِيدَ قِيمَةِ الشَّيْءِ وَجَعْلَ عِوَضِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى قَدْرِهِ بِقِسْطَاسِ الْحَقِّ الْمُسْتَقِيمِ عَزِيزٌ وَعَسِيرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا.